الرياض - محمد الاطلسي - نجحت ليلى خالد في نقل النضال النسائي الفلسطيني إلى ميادين غير مسبوقة، وكان لها مساهمات فعالة في المجالات السياسية والإنسانية والاجتماعية، استطاعت من خلالها أن تخدم القضية الفلسطينية وتضعها تحت الضوء في كل أنحاء العالم.
عرفت خالد معنى التهجير القسري حين تركت حيفا رفقة عائلتها، حالهم حال أكثر من 700 ألف فلسطيني أُجبروا على الرحيل من أرضهم، بعد المجازر الجماعية التي ارتكبتها القوات الصهيونية عام 1948؛ فأبت إلا أن تنتقم.
دخل اسم ليلى خالد التاريخ بصفتها أول امرأة تخطف طائرة، لتصبح منذ ذلك الوقت أيقونة المقاومة الفلسطينية. فطُبعت صورها وهي تلفّ الكوفية على رأسها، وتحمل رشاش الكلاشينكوف، وتضع خاتماً صنعته بنفسها من صمام أمان قنبلة يدوية.
فمن هي ليلى خالد؟ وُلدت في مدينة حيفا-شمال فلسطين يوم 9 أبريل/نيسان 1944، وهي الابنة السادسة لعائلة ستتألف لاحقاً من 12 ولداً وبنتاً. امتلك والدها علي خالد مقهى في المدينة، فيما تفرغت والدتها جميلة لطوف للعمل المنزلي وتربية الأطفال ورعايتهم.
إثر وعد بلفور بتقسيم فلسطين وإنشاء ما يُعرف بـ"دولة إسرائيل" على الأراضي الفلسطينية، شهدت حيفا مواجهاتٍ كثيرة تُشير إليها ليلى في مذكراتها، رغم أنها لم تكن قد تخطت الرابعة من عمرها.
فقد تزامن عيد ميلادها الرابع مع وقوع مجزرة دير ياسين، حين دخلت القوات الصهيونية البلدة في التاسع من أبريل/نيسان 1948، وقتلت سكانها ومثلت بأجسادهم.
في كتاب "شعبي سيحيا: مذكرات خاطفة الطائرات"، والتي كتبها جورج حجار -كما روتها له- تقول ليلى إنها كانت تسمع صوت الرصاص، وشاهدت جثث رجال مقتولين في حيّهم وأمام منزلهم، وأنها منذ ذلك الحين لم تحتفل بعيد ميلادها احتراماً لذكرى المجزرة.
مع استمرار المواجهات بين المقاومة الفلسطينية والعصابات الصهيونية في جميع المدن الفلسطينية، بما فيها حيفا، قررت والدة ليلى النزوح إلى مدينة صور اللبنانية، حيث يعيش عمّ العائلة، لكنها لم تنجح بذلك إلا في المحاولة الثالثة.
ففي المرة الأولى التي استأجرت فيها الأم سيارة أجرة للسفر، فوجئت بوجود جثة أمام المنزل، فاضطرت إلى إدخال أولادها وتغيير موعد السفر حتى تُبعد الجثة.
وفي المرة الثانية، اختبأت ليلى بعدما حضرت سيارة الأجرة ووضعت الأم أغراض العائلة على ظهرها. لم ينتظر سائق الأجرة حتى العثور على الطفلة، فغادر مع مسافرين آخرين. وفي اللحظة التي وجدوا فيها ليلى مختبئة تحت الدرج، علمت الأم أن قنبلة سقطت على سيارة الأجرة التي لم تنتظرها، وأصيب ركابها.
وفي المحاولة الثالثة، نجحت الأم بمغادرة حيفا مع أولادها. وتقول ليلى إنها في طريق رحلتها إلى صور، حُفرت في ذاكرتها مشاهد خروج اللاجئين من المدينة سيراً على الأقدام، حاملين أمتعتهم وأولادهم.
بقي الوالد في حيفا لحراسة منزله ومقهاه حتى عودة الهدوء إلى المدينة، لكن الميليشيات الصهيونية احتلت المنزل والمقهى في الشهر نفسه، فالتحق بالمقاومة الفلسطينية وأُرسل إلى غزة ثم مصر، قبل أن يتبع العائلة إلى لبنان بعد النكبة.
عاشت العائلة لـ6 سنوات في مخيمات اللجوء الفلسطينية في لبنان، وعانوا من ظروفٍ صعبة شأنهم شأن جميع الفلسطينيين الذين هُجّروا قسراً، وباتوا ينتظرون المساعدات من المنظمات الإنسانية حتى يستطيعوا العيش.
درست ليلى خالد في مدارس اتحاد الكنائس الإنجيلية في مدينة صور، وأكملت دراستها الثانوية في مدرسة صيدا للبنات. في العام 1963، تكفل أخوها بمصاريف السنة الأولى في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم توقفت.
خلال دراستها، انتسبت ليلى خالد سنة 1959 إلى "حركة القوميين العرب" حين كانت لا تزال في الـ14 من عمرها، وانتخبت خلال وجودها في الجامعة عضواً في الهيئة الإدارية للاتحاد العام لطلبة فلسطين في بيروت.
بين سنتي 1963 و1969، عملت ليلى مُدرسة للغة الإنجليزية في مدارس حكومية كويتية حين التحقت بأخيها في الكويت وعملت فيها لفترة. وفي العام 1967، انتسبت إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ تأسيسها.
أولى عمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين انخرطت في العام 1969 بالعمل العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تحت قيادة وديع حداد الذي كان يرأس الجناح العسكري، واستمر نشاطها حتى العام 1972. نفذت في تلك الفترة عمليتي خطف لطائرتين، وخططت لخطف 3 طائرات دفعة واحدة، وصار اسمها على كل لسان.
التحقت عام 1967 بمعسكر التدريب التابع للجبهة الشعبية في شمالي العاصمة الأردنية عمان مع اثنين من إخوتها، رغم معارضة العائلة. وبعد انتهاء فترة التدريب الأولى، وقع الاختيار عليها لتكون في فريق العمليات الخاصة.
في العام 1969، اختارها قائدها للانضمام إلى فريق العمليات العسكرية الخارجية في لبنان، فأرسلها وديع حداد للخضوع إلى تدريبٍ خاص؛ تمهيداً للقيام بأولى عملياتها. فقد وقع الاختيار عليها لتنفيذ أولى عمليات الجبهة؛ خطف طائرة "تي دبليو أي بوينغ 707" المتجهة من روما إلى أثينا ثم تل أبيب.
قبل تنفيذ العملية، ذهبت ليلى خالد إلى روما لحفظ الشوارع والاطلاع على الأماكن التي سترتادها، ولاختيار ملابس مناسبة لسائحة متجولة. لاحقاً في 29 أغسطس/آب 1969، عادت إلى روما، حيث قابلت شريكها في العملية سليم عيساوي.
تبدأ سارة إرفنج كتابها "ليلى خالد أيقونة التحرر الفلسطيني"، بالقول: "جلست شابة جميلة ترتدي بدلة بيضاء وقبعة خفيفة، بالإضافة إلى نظارة شمسية داكنة تغطي جزءاً كبيراً من وجهها، في مطار روما بتاريخ 29 أغسطس/آب عام 1969. الفتاة التي تشبه أودري هيبورن استطاعت تهريب مُسدس وقنبلة يدوية، وكانت تجلس في قاعة الانتظار مُتجاهلة رجلاً يجلس في الطرف الآخر، سنعرف فيما بعد أنه سليم عيساوي، وأن الفتاة هي ليلى خالد، وكلاهما رفيقان في وحدة كوماندوز تشي جيفارا، التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكانا في طريقهما لاختطاف طائرة تي دبليو أي 840".
بعدما تمكنت ليلى ورفيقها سليم من إدخال أسلحتهما إلى الطائرة، حجزا مقعدين في الدرجة الأولى حتى يكونا قريبين من قمرة القيادة، ثم نفذا العملية خلال توزيع الطعام على الركاب.
استغل عيساوي انشغال المضيفين وانتقل إلى قمرة القيادة، آمراً كابتن الطائرة ومساعديه بتنفيذ أوامره، ثم أخبر جميع الركاب أنهم الآن تحت إمرة القائدة "شادية أبو غزال"؛ وهو الاسم الحركي الذي اتخذته ليلى خالد، تيمناً بأول شهيدة في الجبهة الشعبية.
أمسكت ليلى القنبلة بيدها ولحقت عيساوي إلى قمرة القيادة، ثم أمرت المضيفين وكل ركاب الدرجة الأولى بالتوجه إلى الدرجة السياحية، ليكون الجميع بعيدين عما يحدث في غرفة القيادة.
سيطرت ليلى على قمرة القيادة، وتواصلت مع برج المراقبة لإبلاغهم بتغيير مسار الرحلة نحو دمشق، ثم ألقت خطاباً سياسياً بالإنجليزية عرّفت فيه بالجبهة الشعبية والقضية الفلسطينية.
طلبت من قائد الطائرة التوجه إلى مطار اللد، والتحليق على علو منخفض فوق حيفا، لإدراكها أن الاحتلال الإسرائيلي لن يُقدم على تفجير الطائرة في مجالها الجوي، ثم أمرته بالتوجه إلى دمشق.
حين هبطت الطائرة في مطار دمشق بدأت مهمة عيساوي بتفجير الطائرة؛ وبالفعل، بعد إفراغ الطائرة من الركاب، فخّخ سليم غرفة القيادة وفجّرها، ثم رافق مع ليلى المسافرين إلى مبنى المطار.
اعتقلت السلطات السورية ليلى خالد وسليم عيساوي واحتجزتهما 6 أسابيع، أضربا خلالها عن الطعام مرات عدة، ثم أُطلق سراحهما بعد صفقة تبادل تضمنت الإفراج عن طيارين سوريين وأسرى فلسطينيين، مقابل الإفراج عن الركاب الإسرائيليين.
التخطيط لخطف 3 طائرات دفعة واحدة صار وجه ليلى خالد معروفاً، بعدما احتلت صورتها نشرات الأخبار والصحف العالمية، وأصبحت على رأس قائمة المطلوبين في إسرائيل. ورغم ذلك، استطاعت الجبهة الشعبية استغلال هذه الشهرة لصالحها، وأرسلت ليلى في جولة إلى الشرق الأوسط.
وحتى تتمكن من تنفيذ عمليات أخرى، قررت تغيير ملامح وجهها. وفي العام 1970، لجأت إلى جراحٍ تجميلي في بيروت رفض في البداية طلبها، ثم وافق بعدما وقعت ليلى على تعهدٍ بأن الطبيب أجرى العمليات الجراحية تحت تهديد السلاح.
احتاجت ليلى عمليات تجميلية متلاحقة لتغيير شكل الأنف والوجنتين والفم، وما لبثت أن عادت إلى الجناح العسكري، فبدأت تخطط مع قائد العمليات الخارجية وديع حداد للقيام بمهمة جديدة.
في تلك الفترة، كانت ليلى خالد تزور حداد باستمرار في منزله ببيروت من أجل التخطيط للعمليات المقبلة. وفي إحدى ليالي مايو/أيار 1970، ضربت 6 صواريخ إسرائيلية المنزل، بعدما وضعت غولدا مائير اسم حداد على رأس قائمة المطلوبين.
أصيبت زوجة وديع حداد وابنه، فيما نجا هو وليلى، وقررا بعد تلك الحادثة اختطاف 3 طائرات -آتية من تل أبيب إلى نيويورك عبر أوروبا- دفعة واحدة.
بقي دور ليلى في العملية سرياً، حتى المشاركون في تنفيذ العمليات الـ3 لم يعرفوه، لكن الحقيقة أن ليلى هي التي خططت لهذه العمليات، وشاركت في إحداها. وفي 6 سبتمبر/أيلول 1970، ذهبت إلى أمستردام للقاء شركائها الثلاث وتنفيذ عمليتها الثانية، وهي خطف طائرة "بوينغ 707" التابعة لشركة العال الإسرائيلية.
كان من المفترض وجود 4 خاطفين على الطائرة، لكن رجال الأمن اشتبهوا بشريكين ومنعوهما من الصعود إلى الطائرة، فيما سُمح لليلى وشريكها من نيكاراغوا باتريك أرغويلو بالسفر.
بدأت العملية بعدما غادرت الطائرة المجال الجوي الهولندي، وقبل الوقت المتفق عليه، لأن ضابطاً إسرائيلياً كان يجلس في الصفوف الأخيرة استطاع التعرّف إلى ليلى، وأخذ يحدّق بها طوال الوقت.
ركضت ليلى من المقاعد السياحية نحو غرفة القيادة، لكن قائد الطائرة كان قد تمكن من إغلاق باب القمرة. وعندما أخرجت قنبلتين للتهديد، كان الضابط الإسرائيلي قد أطلق النار عليها.
تدخل أرغويلو، فتبادل إطلاق النار مع الضابط الإسرائيلي، وأصاب كل منهما الآخر. وفي الوقت نفسه، هاجم رجال الأمن ليلى وأخذوا منها القنابل، ثم ضربوها بشدة حتى انكسرت أضلعها وأغمي عليها، قبل أن يقتل الضابط الإسرائيلي شريكها أرغويلو.
هبط الطيار في لندن اضطرارياً، فاستلمت الضابط قوات أمن إسرائيلية كانت تهمّ بالمغادرة على متن طائرة إسرائيلية أخرى. أما ليلى فقد تنازع عليها الأمن البريطاني والإسرائيلي، ونُقلت بسيارة إسعاف للعلاج.
في الوقت ذاته كان شريكا ليلى وباتريك قد خطفا طائرة "بان أم"، وأجبراها على الهبوط في مطار بيروت، قبل أن يتوجها بها إلى القاهرة لتفجيرها. كما نجحت عمليتا خطف الطائرتين اللتين خططت ليلى لخطفهما في الوقت ذاته مع طائرة العال.
هبطت الطائرة الأولى يوم 7 سبتمبر/أيلول، والثانية يوم 9 سبتمبر/أيلول، واحتجزت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الرهائن.
في تلك الأثناء نقلت ليلى إلى مركز شرطة إيلنغ في لندن، ورفضت التجاوب مع الشرطة حتى عاملتها بصفتها مقاتلة وأسيرة حرب. وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1970، أُطلق سراحها في صفقة تبادل أسرى مع ألمانيا وسويسرا.
في عام 1973 انخرطت ليلى خالد في الحركة النسائية الفلسطينية، وصارت إحدى ممثلات الجبهة الشعبية في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية. لكنها طلبت التوقف عن العمل خلال الحرب الأهلية اللبنانية، بعدما قدمت صباح أحد الأيام إلى منزلها، ووجدت شقيقتها وخطيبها مقتولين.
سافرت في تلك الفترة إلى الخليج، ثم عادت لتعيش مع أمها في صور، قبل أن تنتقل إلى بيروت مع الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني.
بقيت بعيدة عن العمل السياسي حتى العام 1981، بعد انتقالها وزوجها إلى دمشق وإنجاب ابنها الأول. كانت مهمتها إعادة بناء هيكل الجبهة الشعبية في دمشق، فانتُخبت عضواً في اللجنة المركزية للجبهة، كما استمر عملها في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية حتى العام 1985.
في العام 1986 تأسست منظمة المرأة الفلسطينية، وانتُخبت ليلى سكرتيرة أولى لها، وكان دورها تعبئة النساء ومساعدتهن للدفاع عن حقوقهن وحقوق الشعب الفلسطيني، وقد زادت أعباء عملها بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.
مع بداية التسعينيات، تخلت ليلى خالد عن منصبها في قيادة الجبهة الشعبية في سوريا وانتقلت مع عائلتها إلى عمان، وأصبحت بعد ذلك عضواً في المجلس الوطني. وفي العام 2005، انتُخبت عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
عارضت ليلى اتفاقية أوسلو، وهي معارضة للسلطة الفلسطينية؛ لأنها ترفض مبدأ حلّ الدولتين، وهي تعيش اليوم في الأردن وترفض التقاعد حتى تعود إلى حيفا.
الحب في حياة ليلى خالد عام 1970، وقبل تنفيذها عملية خطف الطائرة الثانية، تقدّم لخطبتها قائدها المباشر في معسكرات التدريب، وهو عراقي الجنسية ويُدعى باسم. تزوجا بعد نحو شهرين من خروج ليلى من السجن في لندن، بعدما حصل على موافقة من قيادة الجبهة الشعبية.
بعد أسبوع، عاد كل منهما إلى قاعدته العسكرية، ليلى في لبنان وباسم في الأردن. وحين بدأت إسرائيل تستهدف عناصر الجبهة في عمليات اغتيال عام 1972، فُرضت إجراءات أمنية مشددة على ليلى، ورفض باسم مرافقتها في مخبئها، ما أدى إلى انفصالهما.
لاحقاً، وفي أثناء دراستها بموسكو عام 1979، جمعتها علاقة حب مع أحد طلاب الطب -وكان عضواً في الجبهة الشعبية أيضاً- يُدعى فايز رشيد، ثم تزوجا بعد 3 سنوات في بيروت، قبل أن يسافرا إلى سوريا مع نهاية الثمانينيات حيث أنجبا طفليهما بدر وبشار.
في العام 1992، قرر الزوجان الانتقال إلى الأردن، حيث افتتح فايز عيادة خاصة، ويستقران في عمّان منذ ذلك الحين.
حتى اليوم، تُعتبر ليلى خالد رمزاً للنضال النسائي الفلسطيني، وقد أربكت عملياتها وأرعبت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما أنها أظهرت عجز أجهزة استخباراتها أمام دقة التخطيط والتنفيذ. فكانت من الذين وضعوا القضية الفلسطينية على أجندة العالم.